الاثنين، 27 فبراير 2012

أرض المجانين


لم يعتاد أن يَزجُر لأبيه أو يُعَنف أمه – م الأخر كان واد متربي – فلم يَكُن أمامه سبيل لصد سيل أمه الجارف طوال ما يزيد عن الخمس و ثلاثون ربيعاً إلا أن يستمع و ينصاع حتي ينتهي هذا الإجتياح النفسي سريعاً .



- يا واد ما تسمع الكلام .. دي فرصه ومش هتتعوض تاني .. البت كويسه أوي .. علي العموم أنا إتفقت مع الناس .. خلاص هنروح .. يا واد .. يا واد دي بتبقي حاجه كده من عند ربنا .. لو ضيعتها كأنك بتُرفس نعمته .


- نعمته !


أطرق برأسه في الأرض مُستسلماً و للرايه البيضاء رافعاً .. و للي علي الحبل لابساً غصب عن إللي جابته علشان يعجب إللي جابت نعمته .


مُغصباً أوقف التاكسي ليستعطفه الذهاب حيث تقطُن (نعمته) .. فإذ يُهَيئ له إبتسامة سُخريه و شماته ترتسم بإفتعال علي ثغر السائق فتخيل و كأنه يعلم بأمر نعمته و كأن صورتها مثبته إلي صدره مع كلمه علي طراز ((عروستي نعمته)) أو أنه قد تم الإعلان عن ((نهايه مأساويه لشاعرنا المفَدّي علي يد الحلوه نعمته)) .. تلقائياً يُزمجر بغيظ في وجه السائق سائلاً الذهاب فيجيبه بنعم .. مُجبراً تكوّم بجانبه حتي يتمتع والديه بجَلسه مُريحه في الخلف .. مُقهراً يتنفس الزفير الأبيض المُؤذي الخارج من المدخنه الخَرِبه القاطنه إلي يُسراه .. تَعِج رئتيه بالرائحه العَفِنه و تُعلِن في إستنفار عن إعتراضها و تُعاقبه بسُعال عَنيف تنتفخ له أوردته ..
تتسارع السياره فتَهرب من أمام عينه تفاصيل الموجودات و تستحيل إلي عرض سريع لمشاهد ليس لها معني .. فيجد نفسه ببطء شاخصاً للاشئ ......


يذهب به عقله مذاهب الأعاصير .. فتُومض رأسه بألافات الشبكه (إللي قعد يحَوش فيها سنين و هتروح بلاش) و مُشاجرات القايمه بينه و بين أمها (إللي هتكون كصراع العماليق) و مُشاحانات نعمته (إللي لازم تخلص بهديه غاليه تتلف حوالين رقبتها حتي لو كان مظلوم) و تحكُمات و إشتراطات إللي جابوها (كإنه عثمان البواب أو عبده الصُفرَجي أيهما أحقر) ..
يَستفيق من خيالاته المُظلمه علي حقيقه مُبهِجه يؤكِدها لنفسه مراراً منذ أن خطا عتبة داره خارجاً .. فلن توجد العائله التي ترتضي به عريساً لإبنتها .. فلا عمل مُربح و لا مكان للسُكني و لا طموح للثراء و لا مظهر يُقر عين الناظرين .. فإن إرتضت عائلتها لن ترتضي هي كما حدث سلفاً مرات عديدات ..


و علي هذا المبدأ المُريح .. إنطلق
مُقيداً يَصعد السُلَم مُتأخراً بعد أبيه في طابور تتقدمه أمه لملاقاة عائلة تلك النعمه .. مُتوجعاً إبتسم في وجه أبو النعمه الذي كان يعتصر يَده عَصراً ليختبر شِدته .. مُنتصراً إنتزع الهريسه التي تبقت له منها متمنياً له لعنه سِلتيه قديمه تهبط علي رأسه في الحال تحوله يَعسوب مكسور الجناح .. مُرغماً جلس علي الصالون المُدهَب (اللي كان لازم يكون موجود في أي بيت و كأنه صك دخول الجنه) .. يُحَول وجهته الي أم النعمه مُبتسماً في بلاهه .. يُلاحظ أشعة الفحص المِجهري التي تخرج من عينيها لتستكشف مَلاحته و هِندامه .. يُومِض في ذهنه مَشهد العبقريه (ماري منيب) و إختبار العروسه (لبني عبد العزيز) من أجل إبنها الباشمهندس .. يُمسِك بإبتسامه ساخره علي ثغره مُتلبسه بالشروع في بهدلته طيلة الأيام القليله الباقيه من حياته ..


مُقهراً أصغي للكلمات المتداخله التي تتلاطمه من كل صوب ..
فالأبوين من جهه يتناقشان فيما يُتقنه الرجال من أحاديث .. فيتقمص كل منهما (طلعت حرب) ليُهرتلا إقتصادياً فيحمد الله أن أحد منهما ليس مسئولاً عن الإقتصاد العالمي و إلا أصبحت چيبوتي أغني دول الحياه .. ثم يعتبر كل منهما نفسه (رئيس البلاد) و يقوما علي تخريبها سياسياً في حِنكه و تدمير معنويات شعبها بإفتنان .. ينحدر الحديث بتلقائيه لما يجيده الجميع عن أحوال الناس اللي مَبقوش ذي ناس زمان و الخير اللي راح و مش راجع و أيام زمان اللي عمرها ما هتتكرر تاني و المسئوليه التي يحملها كل منهما في بساطه و رضا مع أنها تُثقل أعتي الأكتاف و كأنهما من نسل شمشون .. و في النهايه يُعلن كل منهما في كَذب مَفضوح عن تبنيه أفكار الأخر و إعجابه بها لأنها تحمل خُلاصة خبرات الحياه و الخلاص من جميع مُشكلات العصر و كل عصر .


أما الأمهات من الجهه الأخري يتحاكين في خيلاء عن أماكن محلات الملابس و مستحضرات التجميل و يتطرق الحديث تدريجياً عن الطرق المتعدده لصُنع الكوسه بالشاميل و طاجن الباميه أبو ليّه ثم تُعلِن كل منهما في مُراءه مُصتنعه عن مهارة الأخري و في مُداهنه عن أستاذيتها المُطلقه في شئون الحياه ..


ينظر الي السقف الذي يحتل العنكبوت أركانه الأربعه .. يخرج منه زفيره كالحمم .. تمني بحق لو كان نسي أذنيه بالبيت أو سقطا عنه سهواً في إحدي المطبات الشاهقه التي كانت يتواثب فوقها التاكسي أثناء محاولاته لقهر قوانين الجاذبيه طوال الطريق ..


جاهداً حاول أن يتجاهل كل الأصوات من حوله .. أن يصنع من أُذناه جماد عديم الحس لا غرض منه و لا وظيفه .. أن يشرُد في عالمه الإبليسي الذي كان يتمني أن يعيشه دائماً حيث تُلهمه شياطينه الشعر .. فعوالم الشعر له هي داء مُزمِن لا علاج منه و دواء مُريح لا غني عنه .. يُصارع كي يَخلو إلي ذاته التي لا تستحق منه ما يفعله بها الأن .. أن يُخالط ذرات الهواء التي تنساب من حوله وينصهر مع جزيئاته .. أن يَسري مع نسماته الهائمه بلا هدف ولغير غرض من أجل لا شئ .. أن يُنصت لهمساته التي تحمل من أسرار الخلائق ما لا يُحصي .. أن ... ما هذا ؟!!


يُزعجه صَمت مُفاجئ عم المكان بعد أن كان أشبه بالسويقه .. تغيير لوضع كانت قد إعتادته إذنيه يقطع حِبال أفكاره .. صمتٌ مُفاجئ يُعيده من عالمه إلي دُنيانا ..
بتلقائيه ينظر إلي ما توجهت إليه أعيُنهم .. و بعفويه يَشخُص إلي السلويت الذي يتحرك من وراء الستار .. يُزاح الستار و تظهر ..
أخيراً هَلت عليهم .. إشرأبت الأعناق و إستقامت الأبدان و إعتدل الجلوس في جَلستهم .. دخلت (نعمته) المكان .. و ليتها ما فعلت .. ليتها ما خرجت من وَكرها .. لم يجد بُدا ً حين رأها من أن يَذبَهِل و يَفغُر فاه ليسيل لُعابه لما رأه من أعاجيب .. فهي صوره طبق الأصل للمخلوق الذي كان يصفه عشماوي في مسرحية ( وجهة نظر ) و كأنه قد رأها :


- مناخيرها جايه علي جنب و ضبها شبرين و ليها ناب كبير ..


سُرعان ما إستفاق ليُمسك بتلابيب نَفس الإبتسامه الساخره التي لم يَحلو لها مكان في العالم لتتلاعب فيه إلا علي وجهه و الأن .. كأنها أخذت عهد علي نفسها بألا يذهب لبيته إلا مُتوَرِم الوجه أو مُقَطَع الأطراف .


.. بفضول بالغ يَرمُق هذا المخلوق القادم من الماورائيات .. السائر وسطهم في خيلاء ليحتل مكاناً مَرموقاً وسط الجمع .. يُدرك أنها تَرمُقه بطرف عيناها بإهتمام بالغ عملاً بمبدأ : عايزه راجل .. أي راجل أحطُه في دراعي .. تلحظ عينه اليمني شبح إبتسامه أشكيفيه تتلاعب بتضاريس وجهها و كأنها تقول : أنت لي يا فتي .. فلا تبكي و إستسلم لأنه لا مفر لك مني ..


الأن يعرف .. الأن يُدرك .. الأن يُريد أن يَلطُم خديه .. الأن يتمني أن يُطلِق لحنجرته العنان لتنطلق في عوالِم الصُراخ و العَويل و الولوَله .. لقد ذهبت سُدي كل أماله في أن يُرفَض و تنتهي القصه .. بل أنها بدأت هنا و منذ اللحظه .. يعرف تماماً أنه مقبول و مُرَحب به حتي و لو كان بأربعة أذرع .. فمن سيرتضي بهذا المسخ إلا ( مسخ مثله حسب معتقدات مجتمعه ).


بخياله الذي بدأ يحتضر يري الجميع ممن يعرفهم و ممن لا يعرفهم يصطفون علي جانبي الممر المؤدي الي (الكوشه) يصفقون و يوزعون الإبتسامات عليهما في نفاق إلي حين إفتتاح البوفيه و يغنون ....


يا عريس يا عريس عشانك جينا يا عريس و ليلتك طينه يا عريس .. إيديك في إيدينا يا عريس نهرب من هنا يا عريس .. قبل ما تدّبس يا عريس و في حيطه هتلبس يا عريس يا عريس يا عريس يا عريس يا عريس يا عريس يا عريس يا عريس


ينتفض من مكانه صارخاً ..


- خلاص بَئه (فنظر له جميع الجلوس مُتعجبين من المُختل الذي ظل صامتاً وعندما تكلم مَجن )


- أمه ( بتجز علي سنانها ) : إيه يا حبيبي في حاجه ؟!!!!


- أم نعمته ( عَوجت بؤها ) : يظهر إن المحروس إتضايق من الأعده معانا


- أبوه ( ناوي يورمله وشه ) : إزاي بئه تقولي الكلام ده .. ده إنتوا من أفاضل الناس


- أبو نعمته ( عايز ينهش لحمه ): ربنا يكرمك ويخليك .. أهو إبننا برضه


محاولاً الشرح فيتلعثم .. متكلفاً يصنع إبتسامه باهته علي وجهه الذي بدأ يتشقق .. و في إيماءة إعتذار واضحه يعود إلي مجلسه ويتصنع الإنصات ..
تُوخزه عضلات وجهه أن يُنهي هذه الإبتسامه القبيحه التي يُجبرها أن تظل موجوده رغماً عنه .. يتحامل علي نفسه و يُجبر وجهه أن يوزع الإبتسامه بين الجالسين و المُتكلمين .. الناظرين له في سُخط و غير المعتبرين ..
يَعود الجلوس جميعاً إلي تَجاذُب أطراف الحديث في محاوله صادقه من الجميع لتناسي ما حدث .. عدا حلوة الحلويين ( نعمته ) و التي لم تَطرف عنه منذ أن هَلت عليهم بإطلالتها الذئبيه .. لم يَدري كم مر عليه شاخصاً
للسجاده و لكنه إستفاق علي طامه أسواء من كارثة النكسه بمراحل عديده ..


- أم نعمته ( علي وشها غضب ربنا ) : مبروك يا حبيبي .


- الواد ( مُذبَهل ) : مبروك ؟!! .. علي إيه ؟!!!


- أبو نعمته ( عايز يرفسه في صدره ) : أكيد مش علي نتيجة إبن خالتك .. ع الجواز يا حبيبي .


- الواد ( علي بوابة الذبحه و الجلطه مع بعض ) : جواز مين !!!!؟ ..


- أبو نعمته (مناخيره كبرت وإبتدا يتحول) : إنت فاكر نفسك جاي تهزر .. جوازك من بنتي .. (نحمدُه)


- الواد ( بيوسع في ياقة القميص و قد بدأت أنفاسه تتسارع ) : مين ؟؟؟ ... (يمسك بصدره ثم يُطلقها مُدَويه) أيييييييييييي ....






و في العنايه المُركزه ..


تيت .. تيت .. تيت .. تيت .. تيت .. تيييييييييييييييييت ....






- نحمده : و الله كان واد كويس .. الله .. يبعتلنا غيره بئه .


- أمها : و أحسن منه كمان يا حبيبة أمك .. هو إنت جمالك ده علي حد .


- أبوها ( في سره طبعاً ) : إبقي تعالي قابليني إنت و أمك .. جاتكو غاره إنتوا الجوز .






- نحمده ( رداً علي أمها ): بس يكون بعنيه الإتنين بقي .. مش بعين واحده ذي أخينا .